نوع المستند : أبحاث علمیة
المؤلف
، قسم اللغة العربية، کلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة جازان
المستخلص
-اِنْقَسَمَتْ الآَيَاتُ – مَـحَطَّ الدِّرَاسَةِ – إلى قِسْمَيْنِ,آيَاتٍ اِتَّـخَذَتْ مِنْ الحَثِّ والتَّرغيبِ سبيلاً, وآياتٍ اِتَّـخَذَتْ مِنْ التَّحْذِيرِ والتَّخْوِيْفِ سَبِيْلاً.وتَبَيَّنَ أَنَّ آَيَاتِ النَّوْعِ الأَوَّلِ هِيَ أَکْثَرُ عَدَدًا.وهَذَا يُشِيْرُ إلى أَنَّهُ قَدْ فُضِّلَ الأُسْلُوبُ الأَوَّلُ لِـحَثِّ اَلْمُسْلِمِيْنَ عَلَى التَّصَدُّقِ والإِنْفَاقِ في سَبِيلِ الله, حَّتَى يُـخْرِجَ اَلْمُسْلِمُ مَالَه مُـحِبًّا لِمَا يَقُوْمُ بِهِ مِنْ عَمَلٍ رَاضِيَةٌ عِنْهُ نَفْسُهُ طَيِّبَةٌ بِهِ.
2-اِخْتَلَفَتْ الآَيَاتُ في أَغْرَاضِهَا – کَمَا أَوْضَحْنَا مِنْ قَبْلِ – مَا بَيْنَ حَثٍّ وتَرْغِيْبٍ, وتَـحْذِيْرٍ وتَـخْوِيْفٍ. لَکِن يَتَوَحَّدُ اَلْـهَدَفُ في الآَيَةِ اَلْوَاحِدَةِ, فَنَجِدُهَا تَـحْمِلُ غَرَضًا وَاحِدًا.
3-تَنَوَّعَتْ اَلأَسَالِيْبُ البَلَاغِيَّةُ في الآَيَاتِ, فَکَانَتْ کَالرَّوَافِدِ التي تَأْتِي مِنْ هُنَا وَهُنَاک, حتَّى تَصُبَّ في مَـجْرَى وَاحِدٍ, فَيَتَحَقَّقُ بِـهِمْ الغَرَضُ الأَصِيْلُ الَّذِي مَا اِسْتُعْمِلَتْ تلک الأساليبُ إلا لِتَحْقِيْقِهِ.
ولَا نَـجِدُ هَذَا عَلَى مُسْتَوَى اَلآَيَاتِ بِشَکْلِهَا اَلْمُتَکَامِلِ في اِتِّسَاقِهَا مَعَ بَعْضِهَا اَلْبَعْضِ فَحَسْبِ, بَلْ نَـجِدُهُ أِيْضًا في الآَيَةِ الوَاحِدَةِ. فَتَأَتي الأَسَالِيْبُ اَلْمُتَنَوِّعَةُ مُتَعَانِقَةً مُتَنَاسِقَةً. فَنَرَى في الآَيَةِ الوَاحِدَةِ الخبرَ والإنْشَاءَ والتَّقْديمَ والتَّأخيرَ والذِّکْرَ والحَذْفَ والقَصْرَ والاسْتِثنَاءَ..الخ ,حتَّى يَـحَارُ البَاحِثُ في تَصْنِيْفِهَا ضِمْنَ أَيِّ فَنٍّ مِنْ الفُنُوْنِ أَوْ أُسْلُوْبٍ مِنْ الأَسَالِيْبِ هِيَ. ومَعَ ذَلِکَ نَـجِدُ أَنَّ جميعَ تِلْکَ الأَسَالِيْبِ تَتَّحِدُ في هَدَفٍ وَاحِدٍ, تَعْمَلُ الآَيَةُ عَلَى تَـحْقِيْقِهِ, وَهُوَ إِمَّا اَلْـحَثُّ عَلَى الصَّدَقَةِ والتَّرْغِيْبُ فِيْهَا, أَوْ التَّحْذِيْرُ مِنْ البُخْلِ والتَّقتيرِ والتَّنفيرُ مِنْ إِبْطَالِ الأَجْرِ اَلْـحَاصِلِ مِنْ النَّفَقَةِ. فَتَکُوْنُ الآَيَةُ مِنْ بِدَايَتِهَا إِلى نِـهَايَتِهَا لَـهَا هَدَفٌ وَاحِدٌ أَصِيْلٌ, بِيْنَمَا تَتَنَوَّعُ أسَالِيْبُ عَرْضِهِ. وَکَذَلِکَ هُوَ حَالُ الآيَاتِ مَعَ بَعْضِهَا اَلْبَعْضِ, فَتَنَوُّعُ الأَسَالِيْبِ فِيْهَا يَـجْعَلُنَا نَتَنَقَّلُ مِنْ فَنٍّ إِلى فَنٍّ، ومِنْ جَـمَالٍ إلى جَـمَالٍ, فَنَتَذَوَّقُ أَبْرَع التَّعَابيرِ وأَبْدَع التَّراکِيْبِ.
4- تِکْرَارُ اِسْتعْمَالِ بَعْضِ الأَسَالِيبِ, مِنْ ذَلِکَ:
أ- التَّشْبِيْهُ: لَقَدْ أَفَادَ استعمالُ التَّشْبيهَاتِ تَقْريبَ اَلْمَعَاني, وَمُـحَاکَاةَ اَلْمَعْقُوْلِ بِالْمَحْسُوسِ, لِيَکُوْنَ أَکْثَرَ قُرْباً مِنْ ذِهْنِ اَلْمُتَلَقِّي, وأَعْظمَ تَأْثِيْرًا في نَفْسِيَّتِهِ. وَذَلِکَ حِيْنَ تَرْسُمُ مِنْ خِلَالِ التَّشبيهِ کُلَّ التَّفَاصيلِ الحِسِّيَّةِ؛کَالرُّؤْيَةِ والسَّمْعِ, وَتَصِلُ تِلْکَ التَّفَاصِيْلِ إلى الوُجْدَانِ واَلْمَشَاعِرِ, فَيَعِيْشُ اَلْمُتَلَقِّي کُلَّ دَقَائِقِهَا, فَيَتَأَلَّـمُ وَيَـحْزَنُ ويَنْدَمُ وَيَتَحَسَّرُ وَيَسْعَدُ وَيَفْرَحُ إلى غَيْر ذَلِکَ مِنْ اَلْمَشَاعِرِ اَلإِنْسَانِيَّةِ اَلْـحَيَّةِ التي تَتَحَرَّکُ في الأَعْمَاقِ. فَيَکُوْنُ الإِحْسَاسُ بِـهَا إِحْسَاسًا حَقِيْقيًّا, وَذَلِکَ لِشِدَّةِ دِقَّةِ ذَلِک التَّصْوِيْرِ الَذِي يَسْتَخْدِمُ الوَسِيْلَةَ الصَّحِيْحَةَ في اَلْمَوْضِعِ الصَّحِيْحِ, لِيَصِلَ بِالْمُتَلَقِّي إِلى أَعْلَى دَرَجَاتِ الإِدْرَاکِ وَاَلْـحِسِّ.
وَلَقَدْ اُخْتِيْرَ أَبْلَغُ أَنْوَاعِ التَّشْبِيْهِ, إِنَّهُ التَّشْبِيْهُ التَّمْثيليُّ.إِنَّ التَّشبيهَ التَّمثيليَّ يَتَفَوَّقُ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ التَّشْبيهِ. فَهُوَ قَائِمٌ عَلَى تَـمْثِيْلِ صُوْرَةٍ ذَاتِ عَنَاصِرَ مُـخْتَلِفَةً بِصُوْرَةٍ ذَاتِ عَنَاصِرَ مُـخْتَلِفَةٍ, فَيَأَتي وَجْهُ الشَّبَهِ بَيْنَهُمَا صُوْرَةً مُنْتَزَعَةً مِنْ عَنَاصِرَ مُتَعَدِّدَةً, وَهَذِهِ اَلْعَنَاصِرُ مُرْتَبِطٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَمَبْنِيٌّ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ, بِـحَيْثِ لَوْ أُسْقِطَ وَاحِدٌ مِنْهَا اِخْتَلَّ اَلْمَعْنَى وَانْـهَدَمَ البِنَاءُ. فَجَمَالُ هَذَا النَّوْعِ مِنْ التَّشْبِيْهِ وَسِرُّ الإِبْدَاعِ فِيْهِ هُوَ تِلْکَ الصُّوْرَةُ اَلْمُرکَّبَةُ الَّتي تَـحْتَاجُ إِلى إِعْمَالِ اَلْفِکْرِ وَشَحْذِ الذِّهْنِ لِتَصَوُّرِهَا وَالوُصُولِ إِلَيْهَا, وهذا ما يؤدي إلى تمکن المعنى في النفس,فيکون أکثر تأثيراً وأعظم إبلاغا.
إِنَّ أَوَّلَ تَشْبِيْهٍ وَرَدَ کَانَ غَرَضُهُ تَقْرِيْبَ کِمِيَّةِ الأَجْرِ التي يَـمْنَحُهَا تَعَالى لِلْمُتَصَدِّقِ، فَشَبَّهَ النَّفَقَةَ القَلِيْلَةَ مِنْ اَلْمُؤْمِنِ بِالبِذْرَةِ اَلْوَاحِدَةِ التي تُبْذَرُ في الأَرْضِ، فَإِذَا بِـهَا تَنْشَقذُ فَتُخْرُجُ إلى سَطْحِ الأَرْضِ وتَنْمُو، وَمَا تَلْبَثُ أَنْ تُسَنْبِلَ سَنَابَلَ في کُلِّ سُنْبُلَةٍ عَدَدٌ کَبيرٌ مِنْ البُذُوْرِ .. فَکَذَلِکَ الأَجْرُ الَّذِي يَـجْزِلُهُ تَبَارَکَ وتَعَالى لِلْمُنْفِقِ عَلَى تِلْکَ النَّفَقَةِ القَلِيْلَةِ مِنْهُ.
ثُـمَّ يتَّضحُ من الآيات التي تتلو هذه الآية أن ذلک الأجر يمنح لِمَنْ لا يتبعُ صدقَتَهُ بالْمَنِّ والأَذَى..ولأنَّهُ أوضحَ کِمِيَّةَ أَجْرِ اَلْمُنْفِقِ بِـمَثَلٍ ضَرَبَهُ لِيُقَرِّبَ اَلْمَعْنى لِلذِّهْنِ، کذلک ضَرَبَ مَثَلًا لِمَنْ يُبْطِلُ أَجْرَ صَدَقَتِهِ بِالْمَنِّ والأَذَى، فَشَبَّهَهُ بِالْمُرَائِي، ولِيُزِيْدَ الإيضاحَ ضَرَبَ اَلْمَثَلَ لِمَا کَانَ هُوَ مَثَلًا، فَشَبَّهَ حَالَ اَلْمُرَائِي بِـحَالِ مَنْ يَبْذِرُ بُذُوْرَهُ عَلَى صَفْوَانِ يَأحْسَبُهُ أَرْضًا طَيِّبَةً حتى إِذَا نَزَلَ عليها اَلْمَطَرُ واِسْتَبْشَرَ، إِذْ بِهِ يَکْتشفُ اَلْـحَقِيْقَةَ التي کَانَتْ غَائِبَةً عَنْهُ، فَيَتَحَسَّرُ وَيَـحْزَنُ وَيَتَأَلَّـمُ. ثُـمَّ يُقَابِلُ هَذَا اَلْمَثَلَ بِـمَثَلٍ يُبَيِّنُ فِيْهِ حَالَ مَنْ کَانَ عَلَى نَقِيْضِ حَالِ اَلْمُرَائِي واَلْمُتْبِعِ نَفَقَتِهِ بِالْمَنِّ والأَذَى، وَمَا يَـحْصُلُ عَلَيْهِ مِنْ الأَجْرِ اَلْعَظِيْمِ واَلْـخَيْرِ اَلْـجَزِيلِ الذي يَـجِدُهُ في الآَخِرَةِ .. وَرَغْمَ أَنَّهُ قَدْ تَـمَّ ضَرَبُ اَلْمَثَلِ لِلْخَاسِرِ واَلْمُحْبَطِ أَجْرَهُ إِلَّا أنَّهُ ضَرَبَ مَثَلًا جَدِيْدًا لِيَزِيْدَ في بَيَانِ حَجْمِ اَلأَلَـمِ والحُزْنِ والنَّدَمِ الَّذِي سَيُصُيْبُهُمْ يومَ القِيَامَةِ.
وَهُنَا يُلاحَظُ أَمْرَانِ:
اَلأَوَّلُ: أَنَّ اَلأَمْثَالَ اَلْمَضْرُوْبَةَ جَاءَتْ في مَثَلَين لِتُبَيِّنَ حَالَ أَهْلَ اَلْـخيرِ في آيتين، وثَلاثَةِ أمثالٍ تُبَيِّنُ حَالَ أَهْلِ الشَّرِّ في آيتين أيضًا.. والأمثالُ جَاءَتْ مُتَعَاقِبَةً: الخيرُ ثُـمَّ الشَّرُّ ثُـمَّ الخَيْرُ ثُـمَّ الشَّرُّ. فَشَبَّهَ أَجْرَ النَّفَقَةِ الطَّيِّبَةِ مَرَّةً بِالسَّنَابِلِ وَمَا فِيْهَا مِنْ بُذُوْرٍ ذَاتِ أَعْدَادٍ کبيرٍة، وَمَرَّةً بِالجَنَّةِ التي تُثْمِرُ ثِـمَارًا طَيِّبَةً، بَلْ تُؤْتي أَحْيَانًا الضِّعْفَ مِنْ تِلْکَ الثِّمَارِ.. وَهَذَا لِزِيَادَةِ بِشَارَةِ اَلْمُتَّقِي الَّذِي يَبْتَغِي بِنَفَقَتِهِ وَجْهَ اللهِ تَعَالى وَلَا يُتْبِعُهَا بِالْمَنِّ وَالأَذَى.
وأغلظَ في تَشْبيهِ حَالِ مَنْ يُتْبِعُ نَفَقَتَهُ بِالْمَنِّ والأَذَى، فَشَبَّهَهُ بِالْمُرَائِي الَّذِي لا يَـحْصُلُ عَلَى أَيِّ أَجْرٍ عَلَى عَمَلِهِ، بَلْ عَمْلُهُ مُـحْبَطٌ، وَزَادَ في التَّغْلِيْظِ فَشَبَّهَ حَالَ اَلْمُرَائِي بِـحَالِ مَنْ يَبْذُرُ عَلَى صَفْوَانَ ثُـمَّ تکونُ عاقبتُهُ اَلْـحَسْرَةُ والحُزْنُ والأَلَـمُ والنَّدَمُ.. ثُـمَّ نَـجِدُ أَنَّهُ أَيْضًا شَبَّهَ حَالَ اَلْمُرَائِي وَاَلْمُتْبِعِ نَفَقَتَهُ بِالْمَنِّ والأَذَى بِـحَالِ ذَلِکَ الشَّيْخِ الذِي کَانَ في بِدَايَةِ الأَمْرِ سعيدًا بجنته يشعر أنه بوجودها لم تعدٍ لديه أيَّةُ مَشَاکِلَ في الحياةِ، لکنَّ الإِعْصَارَ الذي فيه نارٌ يَـحْرِقُهَا فيذهبُ بَـهَا.. فلک أنْ تتخيَّلَ حَجْمَ مُصَابِهِ.. ومِنْ هُنَا يَتَّضِحُ أَنَّ تکثيفَ ذِکْرِ هَذِهِ التَّشْبِيْهَاتِ فِيْهِ حِرْصٌ عَلَى اَلْمُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَعْمَلَ أَيَّ عَمَلٍ يَرُدُّهُ إِلى اَلْـحَسْرَةِ والنَدَمِ حِيْنَ يَـجِدُ أَنَّ عَمَلَهُ قَدْ أُحْبِطَ، وَأَنَّهُ لَـمْ يَـحْصُلْ عَلَى أَيِّ أَجْرٍ کَانَ يَأْمَلُهُ، فَهَذِه الأمثالُ کُلُّهَا رَحْـمَةٌ مِنْ الله - تَبَارَکَ وَتَعَالى - بعبادِهِ، فَلَمْ يِقْتَصِرْ عَلَى التَّحْذِيْرِ مِنْ الشَّرِّ، بَلْ ويَضْرِبُ لَهُ اَلْمَثَلَ تِلْوَ اَلْمَثَلِ لِکَي يَتَرَسَّخَ کُلَّ مَعنى في الذَّهْنِ وَيَعِيَهُ القَلْبُ، فيکون اَلْمُؤمنُ أکثرَ بُعْدًا عَنْ الشَّرِّ بَلْ حتى کُلِّ مَا يُقَرَّبُ مِنْهُ.
الثَّانِي: اِتَّضَحَ سَابِقًا أَنَّ التَّشْبيهاتِ خَـمْسَةٌ، أَرْبَعَةٌ مِنْهَا جَاءَ اَلْمُشَبَّهُ بِهِ فَيْهَا عَنَاصَرَ من الطَّبيعَةِ.. النَّبَاتُ، الأرضُ، الصَّفوانُ، التُّرابُ، اَلْمَطَرُ، الإِعْصَارُ.. والتَّشْبِيْهُ الخَامِسُ هو تَشْبيهُ مَنْ يُتْبِعُ صدَقَتَهُ بِالْمَنِّ والأَذَى بِالْمُرَائِي الَّذِي لايَبْتَغِي بِعَمَلِهِ وَجْهَ اللهِ تَعَالى، لکنَّ حتى هَذَا التَّشبيهِ يَعْقِبُهُ بِتَشْبِيْهٍ آَخَرَ مِنْ الطَّبيعَةِ؛ لِيَزِيْدَ في إِيْضَاحِهِ وَبَيَانِهِ.
وَقَدْ يکونُ السَّبَبُ في اخْتِيَارِ هَذِه اَلْعَنَاصِرِ وَاَلْـهَيْئَةِ اَلْـحَاصِلَةِ مِنْ تَفَاعُلِهَا مَعَ بَعْضِهَا هُوَ بُرُوْزُ الدَّلِالَاتِ اَلْمُرَادِ إِيْصَالُـهَا إلى اَلْمُتَلَقِّي فِيْهَا، وَقُرْبُـها مِنْ ذِهْنِهِ.. فَتَکَاثَرُ الشَّيْءِ الوَاحِدِ بِأَعْدَادٍ کبيرةٍ تَصِلُ إِلى اَلْمِئَاتِ هُوَ بَارِزٌ وَظَاهِرٌ في الحُبُوبِ التي تُسَنْبِلُ، رَغْمَ أَنَّ هَذَا مَوْجُوْدٌ أَيْضًا في عَالَـمِ اَلْمَجْهَرِيَّاتِ وَاَلْحـشَرَاتِ والکَائِنَاتِ اَلْبَحْرِيَّةِ.. لکنْ اُخْتِيْرَتْ الحُبُوبُ لِکَوْنِـهَا مُشَاهَدَةً ومعلومَةً من قِبَلِ اَلْمُتلقِّي، إِضَافَةً إلى جَـمَالِـهَا وَارْتِيَاحِ النَفْسِ عِنْدَ النَّظَرِ إليها أو السَّمَاعِ عَنْهَا، وَمَا يَعْقِبُ ذَلِکَ التَّکَاثُرِ مِنْ خَيْرٍ للإنْسَانِ، فَهُوَ طَعَامُهُ الذي يتقوَّى بِه بَلْ وحتى يَتَلَذَّذُ بِهِ، على عَکْسِ الکَائِنَاتِ الأُخْرَى التي قد يکون في تکاثرها ضرر على الإنسانِ، وهي أيضًا بعيدةٌ عن حيِّزِ تَصَوُّرِهِ وَمَـخْيِلَتِهِ.
وَالْـجَنَّةُ التي بِرَبْوَةٍ يُصِيْبُهَا الوَابِلً أو الطَّلُّ فَتُؤْتِـي ثَـمَارَهَا، فَهُوَ اَلْمُشَبَّهُ بِهِ الأَقْدَرُ عَلَى إِيْصَالِ مَعَاني اَلْـخَيْرِ والبَرَکَةِ والسَّعَادَةِ والسُّرُوْرِ إلى اَلْمُتَلَقِّي، کي يَـخْتَارَ لِنَفْسِهِ السَّبِيْلَ الصَّحِيْحَةَ فَيَسْلُکَهَا دُوْنَ تَرَدُّدٍ.
وکذلک الصَّفْوَانُ الذي عليه تُرَابٌ أو الجنَّةُ الغَنِيَّة بِکُلِّ مَا يُبْهِجُ، ثُـمَّ اِحْتِرَاقُهَا أَوْ نُزُوْلُ اَلْمَطَرِ الغَزِيْرِ عَلَى الصَّفْوَانِ وإزالة ما عليه من ترابٍ، هي أمورٌ تُبْرزُ فيها معاني شِدَّةِ الألم والحُزْنِ والحَسْرَةِ والنَّدَمِ، بِعَکْسِ أَيِّ مَوْقِفٍ آَخَرَ قَدْ يَتَعَرَّضُ لَهُ الإِنْسَانُ في حَيَاتِهِ، فَخَيْبَةُ الأَمَلِ تَکُوْنُ عَظِيْمَةٌ عِنْدَمَا لَايتَحَقَّقُ اَلْمَأْمُوْلُ رَغْمَ اَلْعَنَاءِ والبَذْلِ الکثيرِ والعَمَلِ الجَادِّ مِنْ أَجْلِ تَـحْصِيْلِهِ، لکنَّ النِّهَايَةَ تکونُ عَلَى عَکْسِ اَلْمُتَوَقَّعِ واَلْمَأْمُوْلِ.
إذن فاختيارُ عَنَاصِرِ الطَّبِيْعَةِ لِتَقُوْمَ بِدَوْرِ اَلْمُشَبَّهِ به هو الاختيارُ الأکثرُ دِقَّةً، لکونِهِ ملموسًا لَدَى اَلْمُتلقِّي قريبًا من إدراکه سريعًا في حُصُولِ اَلْمُرادِ وإيصالِ اَلْمَعَاني.
ومن هنا تَتَّضِحُ أهميَّةُ أُسْلُوبِ التَّشبيهِ وأسبابَ تکرارِ استعماله.. إنَّ له أثرًا عظيمًا في إيصالِ اَلْمَعَاني إلى اَلْمُتلقِّي وتقريبها من ذِهْنِه وتَرْسِيخِها في قَلْبِه، ومَا يَتْبعُ ذَلِکَ مِنْ تَأَثُّرِهِ ثُـمَّ استجابَتِهِ واِمْتِثَالِه لِشَرْعِ اللهِ القويمِ.
ب-التَّذييلُ: کثرت الجمل التي جاءت تذييلاً للآيات.کون التذييل مؤکِّداً لمعنى الآيةِ, ومُتَنَاسِبًا معها تَنَاسُبًا تَامًّا, فَتُمَهِّدُ الآيَةُ لَهُ؛ وَهُوَ يُؤَکِّدُهَا, بَلْ قَدْ يَزِيْدُ عَنْ ذَلِکَ حينَ يکونُ أکثرَ شُـمُولاً وعُمُومًا, فَيَصِلُ إلى دَرَجَةِ الأَمْثَالِ السَّائِرَةِ التي تَدُوْرُ عَلَى الأَفْوَاهِ, وَتَـجْرِي بِـهَا الأَلْسُنُ. وَهَذَا أَکْثَرُ مَا نَـجِدُهُ في الجُمَلِ اَلْمَخْتُوْمَةِ بِأَسْـمَاءِ الله – تعالى- الحسنى, لِمَا تتميَّزُ به هذه الأسماءُ مِنْ الشُّمُولِ لِمَعَاني عظيمةٍ وصفَاتٍ جليلةٍ, مِـمَّا يجعلُ المعنى معها يزيدُ ويتَّسِعُ.
فجملةُ التَّذييلِ تُوْجِزُ مَا في الآيَةِ مِنْ مَعَانٍ وتَـختصِرُهَا في کَلِمَاتٍ قليلةٍ وافيَةٍ بِالْمَعْنى تَـمامَ الوَفَاء..ووجُودها بکثرَةٍ من أَدِلَّةِ الإِعْجَازِ البَلاغِي في هَذَا القُرْآنِ العَظيمِ. وَمِنْ الإِعْجَازِ البَلاغِي فيها أيضًا عَدَمُ وُرُوْدِهَا بِصِيغَةٍ رُوتينيَّةٍ واحدَةٍ, بَلْ نَـجِدُ فِيْهَا التَّنَوُّعَ في أساليبها, واختلافَ الأشکَالِ التي تُصَاغُ مِنْهَا؛ کالتَقديمِ والتَأخيرِ، والذِّکْرِ والحَذْفِ، والأَمْرِ والنَّهْي، والاستثناءِ والقَصْرِ.. إلى غير ذلک من الأسَالِيْبِ البَلَاغِيَّةِ.
5-اِسْتَوْعَبَتْ الآيَاتُ کُلَّ جَوَانِبِ الصَّدَقَةِ؛ مِنْ حَيْثُ الکَمِّ والنَّوْعِ واَلْمُسَتَحِقِّين لَـهَا، وَآَدَابِ إِخْرَاجِهَا، وَکُلِّ اَلْمُلَابَسَاتِ اَلْمُحِيْطَةِ بِـهَا. وَقَدْ جَاءَ التَّعْبِيرُ عَنْ کُلِّ هَذَا إِمَّا بِشَکْلٍ ظَاهِرٍ أَوْ مُسْتَتِرٍ؛ يُـمْکِنُ الکَشْفُ عَنْهُ مِنْ خِلَالِ فَهْمِ التَّعْبيرَاتِ، وَمَا تُوْحِي بِهِ مِنْ دَلَالَاتٍ. فَمَثَلاً:
أ- عُبِّـر بــــ(ما) في قوله:)مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ([البقرة:٢١٥]؛ لِلدِّلَالَةِ عَلَى کِمِيَّةِ الصَّدَقَةِ, فَلَمْ يَشْتَرِطْ أَنْ تَکُوْنَ الصَّدَقَةُ کَثيرةً أم قليلةً، لکن اشترطَ فيها أَنْ تکون من الطِّيباتِ:) أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا کَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَکُمْ مِنْ اَلأَرْضِ([البقرة:٢٦٧].
ب-وعدَّدَ الفِئَاتِ اَلْمُحْتَاجَةَ للإِنْفَاقِ, فَجَاءَ عَلَى ذِکْرِ کُلِّ مُـحْتَاجٍ,)فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاکِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ([البقرة:215]،ونبَّهَ عَلَى مَنْ خَفِي حَالُهُ وَسُتِرَ عِلمُ النَّاسِ بِـحَاجَتِهِ, فَأَمَرَ بِالبَحْثِ عَنْهُمْ وَالإِنْفَاقِ عَلِيْهِمْ لِسَدِّ حَاجَتِهِمْ،)لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحْصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا( [البقرة:273]. وَحَثَّ حتى عَلَى الإِنْفَاقِ عَلَى غَيْرِ اَلْمُسْلِمِيْنَ: )لَّيْسَ عَلَيْکَ هُدَاهُمْ وَلَکِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِکُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْکُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ([البقرة:٢٧٢].
ج-کذلک اَلْمَوَاقِفُ التي يَـجِبُ فِيْهَا الإِنْفَاقُ:(في سَبِيْلِ الله)؛أَيْ حِيْنَ يَـحْتَاجُ جَيْشُ اَلْمُسْلِمِيْنَ اَلْمُجَاهِدُ في سَبِيْلِ الله, فَعَلَى اَلْمُسْلِمِ أَيْضًا اَلإِنْفَاقُ:)وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيْکُمْ إِلَى اَلتَهْلُکَةِ([البقرة:١٩٥].وَمِنْ هُنَا يَتَّضِحُ أَنَّ اَلآَيَاتِ جَاءَتْ عَلَى ذِکْرِ کُلِّ اَلْفِئَاتِ اَلْمُحْتَاجَةِ, بَلْ وَاَلْمَوَاطِنِ التي يَـجِبُ فِيْهَا بَذْلُ اَلْمَالِ وَالإِنْفَاقِ. وهذا لکي لا يبقى محتاجٌ في أَرْضِ الإِسْلَامِ, وليعيشَ اَلْمُسْلِمُ آَمِنًا, فَبِنَفَقَتِهِ عَلَى جَيْشِ اَلْمُسْلِمِيْنَ تَقوِيَةٌ لَـهُمْ وَآَمَانٌ لَهُ.
د-وأَتَى عَلَى ذِکْرِ آَدَابِ الصَّدَقَةِ بِشَکْلٍ مُبَاشِرٍ في آيَاتٍ عَدِيْدَةٍ؛ مِنْهَا:)الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ([البقرة:٢٦٢]، وَبِشَکْلٍ غَيْرِ مُبَاشِرٍ, حِيْنَ قَالَ:)وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ([البقرة:215] تذييلاً, بعد بيانِ اَلْمُسْتَحَقِّين للنَّفَقَةِ مِنْ اَلْوَالِدَين والأَقْرَبين واليَتَامَى واَلْمَسَاکِيْنَ واِبْنِ السَّبيلِ. وکذلک قوله: )وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ([البقرة:273], تذييلٌ جَاءَ بَعْدَ التَّنْبِيْهِ عَلَى البَحْثِ عَنْ اَلْمُحْتَاجِيْن اَلْمُتَعَفِّفِيْن لِسَدِّ حَاجَتِهِمْ.
وَهُنَا تَنْتَهِي جَوْلَتُنَا مَعَ (أَسَالِيْبُ اَلْـحَثِّ عَلَى اَلصَّدَقَةِ فِي سُوْرَةِ اَلْبَقَرَةِ؛دراسةٌ بلاغيَّةٌ).. ولقد رأينَا کَمْ أَلَـحَّتْ اَلآَيَاتُ في کِلَا اَلْمَبْحَثَيْنِ عَلَى البَذْلِ واَلْعَطَاءِ في سَبِيْلِ الله, وَخَوَّفَتْ مِنْ اِسْتَجَابَ لِلأَمْرِ الإِلَـهِي بِالإِنْفَاقِ مِنْ إِحْبَاطِ عَمَلِهِ وَإِبْطَالِ أَجْرِ نَفَقَتِهِ.. لَقَدْ حَثَّتْ کُلُّ تلک الآياتِ اَلْمُسْلِمَ عَلَى تَرْکِ البُخْلِ والاِتِّصَافِ بِصِفَاتِ اَلْمُتَّقِيْنَ الَّذِين )مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ( [البقرة:3].
إِذَنْ لَقَدْ اِنْتَهَى بِنَا التِّطْوَافُ في الآَيَاتِ..رَغْمَ الشُّعُورِ بِالقُصُورِ..فَآَيَاتُ الذِّکْرِ الحَکيْمِ فِيْهَا مِنْ اِلِإعْجَازِ مَا يُعْجِزُ العَقْلَ البَشَرِيَّ عَنْ إِدْرَاکِ کَافَّةِ أَسْرَارِهِ, أَوْ بُلُوْغِ مُنْتَهَاهُ..ولَکِن حَسْبِي أَنِّـي بَذَلْتُ جَهْدًا خَرَجَتْ مِنْهُ بِبَعْضِ اَلأَسْرَارِ, الَّتي أَسْأَلُ اللهَ – تَعَالى – أَنْ يَنْفَعَنِي بِـهَا, وَيَنْفَعَ بِـهَا کُلَّ قَارِئٍ, لِيَزْدَادَ اَلإِيْـمَانُ في قُلُوبِنَا, وَنَقْتَرِبُ أَکْثَرَ مِنْ فَهْمِ شَيْءٍ مِنْ اِلإِعْجَازِ اِلإِلَـهِي في هَذَا اَلْکِتَابِ العَظِيْمِ.
الكلمات الرئيسية
الموضوعات الرئيسية