تنظر الفلسفة إلى نفسها على أنها سعي فکري نحو تفسير الوجود والعالم والإنسان تفسيراً تصورياً مجرداً، وتستخدم في سبيل ذلک مقولات وتصورات وأفکاراً عامة تختزل إليها کل التعقد الحي للواقع التجريبي المادي. وهي بذلک تسلم منذ البداية بأن الفکري هو الذي يفسر المادي، وأن المجرد هو الذي يفسر العيني. وقد اتفق معظم الفلاسفة على هذا المنهج الاختزالي الردِّي، ما عدا حفنة قليلة نادرة منهم، سارت عکس التيار وکانت لها رؤية راديکالية مختلفة، وفعلت عکس ما کان الفلاسفة يفعلونه على مدى ألفين وخمسمائة عام. إذ سعت هذه الفئة إلى إرجاع المقولات والتصورات والأفکار المجردة التي تفکر بها الفلسفة إلى أساسها الحقيقي الفعلي، هذا الأساس الذي نظروا إليه على أنه مادي واجتماعي. فقد کانوا على قناعة بأن الأوضاع المادية والاجتماعية التي يعيشها الإنسان هي التي تشرط تفکيره وطريقة هذا التفکير وتصل إلى تحديد الأفکار والتصورات المجردة التي يستخدمها في تفکيره. وبذلک عملت هذه الفئة من الفلاسفة على القيام بعکس ما اعتاد الفلاسفة التقليديون القيام به، وإرجاع الفکري إلى المادي – الاجتماعي، والمجرد إلى العيني الذي نشأ عنه. تضم هذه الفئة: مارکس (1818-1883) وإنجلز (1820-1895) وبليخانوف (1856-1918) وکاوتسکي (1854-1938) ولوکاتش (1885-1971) وزون ريتل (1899-1990) وفلاسفة مدرسة فرانکفورت، وأهم هؤلاء الفلاسفة على الإطلاق هو تيودور أدورنو (1903-1969) موضوع هذه الدراسة. في الصفحات التالية سيجد القارئ دراسة لجانب هام من جوانب فکر أدورنو وهو المتعلق بمعالجته المادية للأفکار والمذاهب الفلسفية. وهو جانب لم يتم الترکيز عليه من قبل أغلب الذين کتبوا عن أدورنو. وربما يرجع السبب في ذلک إلى ترکيزهم على جوانب أخرى رأوا أنها الأجدر بالدراسة، لکنني أعتقد أن نقد أدورنو المادي للفلسفة هو أهم إسهام قدمه لحقل الدراسات الفلسفية. ونظراً لرؤية أدورنو المادية والسوسيولوجية للفلسفة، فقد کان ترکيزه في تحليلاته منصباً على أکثر الفلسفات تعبيراً عن مشروطيتها المادية – السوسيولوجية، وهي في الوقت نفسه أکثر الفلسفات تأثيراً وأهمية في العصر الحديث، وهي فلسفات کانط وهيجل وهوسرل وهايدجر. وقبل أن ندخل في تفاصيل الدراسة، نود في البداية أن ننبه على بعض الأفکار الهامة التي تميز معالجة أدورنو للفلسفة والتي تفصلها عن المعالجات الشبيهة. لا ينظر أدورنو إلى العلاقة بين الأفکار والواقع المادي على أنها علاقة تبعية مطلقة على طريقة السببية الميکانيکية، فهو لا يقول إن الواقع المادي هو الذي ينتج الأفکار الفلسفية، وبذلک فهو لا يعتقد في الرؤية المارکسية التقليدية الذاهبة إلى أن البناء التحتي الاقتصادي هو الذي يشرط بصورة مطلقة البناءات الفوقية. فقد سبق لأدورنو أن رفض هذه الثنائية الحادة بين البناء التحتي والبناء الفوقي ورأى أنها مبسطة أکثر من اللازم وغير علمية([1]). أما الرؤية التي يتبناها أدورنو والتي يستخدمها أساساً لتفسيره المادي للفلسفة فهي تنص على أن التصورات الفکرية المجردة ليست مجرد نتاج للأساس المادي بل هي أثر مصاحب لهذا الأساس، بحيث إن الأساس المادي للمجتمع أو للطبقة الاجتماعية ينعکس في الفکر ليحدث رؤى فلسفية مجردة. وبذلک تکون الفلسفة هي الوجه الفکري للمجتمع أو للطبقة الاجتماعية، ينعکس فيها الفکر ليُحدث رؤى فلسفية مجردة. تنقسم هذه الدراسة إلى أربعة أجزاء. في الجزء الأول شرح للمنطلق الفکري الذي يفسر أدورنو على أساسه المذاهب الفلسفية، وهو ما أسميه المادية السوسيولوجية. وبعد شرح للأصول المارکسية لهذا المنطلق الفکري، أشرع في شرح کيفية انتماء معالجة أدورنو للفلسفة إلى هذا التوجه النظري. وفي الجزء الثاني أتناول معالجة أدورنو لفلسفة کانط، باعتبارها کاشفة عن الشروط المادية للبورجوازية الأوروبية عامة وللبورجوازية الألمانية بوجه خاص. وفي الجزء الثالث أتناول نقد أدورنو لفينومينولوجيا هوسرل، باعتبارها معبرة عن الشرط الجديد الذي عاشته البورجوازية في القرن العشرين، والذي تحدد بتحول هذه الطبقة إلى الرأسمالية المالية، وتوضيح کيفية ارتباط فلسفة هوسرل بهذا النمط
[1]) Adorno: “Introduction”, in The Positivist Dispute in German Sociology. Translated by Glyn Adey and David Frisby. (London: Heinemann, 1976), pp.24-28.