کان لسقوط دولة الاسلام في الأندلس أسباب عديدة ومتشابکة ولاتسجل سنة ۱۹۹۲ م التي تم فيها تسليم غرناطة للملکين الکاثوليکيين فرناندو رايزابيلا التاريخ ، الحقيقي لانهيار الاسلام هناک وإنما بدأت عوامل انهيار هذا الکيان السياسي والحضاري العظيم الذي عاش على مدى قرون ثمانية في قلب القارة الأوربية ، في الظهور منذ اللحظة الأولى التي دخل فيها القائد طارق بن زياد الى الاندلس ، على رأس جيش تألف في معظمه من البربر . فان أسباب انهيار الدول والامبراطوريات العظمي عادة لاتأتي فجائية بين يوم وليلة ، وإنما غالبا ماتکون أسبابا کامنة ، بعيدة تضرب بجذورها في الأعماق التاريخية وتتراکم تلک الأسباب ، وتتعدد وتتشابک لتتکالب في النهاية ، وتضغط بعنف وقوة على جدران هذه الکيانات السياسية التتهالک أسسها وتنهارى ، وتنهار ، ومعظم النار من مستصغر الشرر . وقد تعددت الأسباب التي أدت إلى سقوط دولة الاسلام في الأندلس واختلطت ببعضها البعض ، وقد أشرت في أبحاث سابقة لى الى بعض هذه الأسباب ، ومنها زواج المسلمين من الاسبانيات والعکس ، فقد نتج عن هذا الزواج المختلط جيل جديد عرف بالمولدين . وکان لظهور هؤلاء المولدين آثار إيجابية وأخرى سلبية على التاريخ والحضارة الاسلامية في الاندلس ( ۱ ) ، کما کان لتعدد العناصر والأجناس التي تکون منها المجتمع الأندلسي ، وتطاحن وتصارع هذه الأجناس ، أکبر الأثر في إضعانه ، فمن عرب يمنية رئيسية تتأکلهم ثارات قديمة ومنازعات ، نقلوها معهم من بلادهم الى الاندلس ، الى بربر کانوا يشعرون منذ أن بدأت الخلافة الأموية ، بتحيزها للعنصر العربي على حسابهم وحساب سائر الأجناس غير العربية التي انخرطت في الاسلام ، فتظلموا من جراء مسلک بعض الولاة الأمويين ، فثاروا في بلاد المغرب وانتقلت ثوراتهم الى بربر الأندلس منذ عصر الولاة ( ۳ ) ، بل إن هناک بعض المؤرخين الحديثين من يرى بناء على ما أورده کل من الادريسي في " نزهة المشتاق والحميري في " الروض المعطار " أن ثمة خلافا قد نشب بين القادة العرب وبين طارق بن زياد القائد البربري منذ البداية ، وفي أعقاب عبور الجيوش الاسلامية من المغرب الى الاندلس بهدف افتتاحه سنة۱۲ هجرية ، مما دفع طارق بن زياد الى احراق سفنه حتى لايرجع العرب الى المغرب فأجبرهم بذلک على القتال ( ۳ ) . وتزايدت الصراعات العربية والعنصرية في الأندلس بانخراط المولدين في حلبة الصراع السياسي ، فتعددت ثوراتهم ضد الحکومة المرکزية في قرطبة منذ بدايات عصر الامارة ، الاحساسهم في کثير من الأحيان بالظلم رغم انتماء الأسرة الأموية الحاکمة الى أصول مولدة فغالبية أمهات أمراء بني أمية کن أمهات ولد اسبانيات جليقبات أو بشکنسيات مما دفع أحد کبار المؤرخين في حقل الدراسات الأندلسية الى اعتبار هذه الأسرة الأموية الحاکمة أسرة مولد ( 4 ) ، ولکن رغم سريان الدماء الاسبانية في عروق أمراء بني أمية في الاندلس فقد تعصب هؤلاء الأمراء لأصولهم العربية ، فتعددت ثورات المولدين الذين تحالفوا أحيانا البربر ضد العرب ( 5 کما تحالفوا مع المستعربين ، واستنجدوا بلوک الفرنجة في فرنسا وملوک اليون الاسبان الذين کانوا قد بدأوا حرکة الاسترداد المسيحي ضد الاسلام في أسبانيا ( 6 ) ( Le Reconquista ) وقام البربر والمولدون بثورات عنيفة ضد الامارة لعن أشهرها ثورة عمر بن حفصون وابن مروان الجليتي من المولدين وعمر بن مضم الملاحي من البربر وقد شجع ذلک الکثير من العرب بدورهم على الثورة والانتزاء ، وانفصل الثوار على مختلف أجناسهم عن الحکومة المرکزية بقرطبة واستقلوا بمناطق عديدة من الاندلس مما دفع بکثير من المؤرخين الى اعتبار أن الفترة الممتدة منذ عهد الامير محمد حتى أواخر عهد الامير عبدالله ( ۲۳۸ - ۳۰۰ هجرية ) هي أولي عصور الطوائف بالاندلس . وقد شهد عصر الطوائف الاول صراعات عنيفة بين العرب والبربر وصراعات أعنف بين العرب والمولدين ، واشتدت الصراعات العرقية بظهور الصقالبة في عصر الخلافة ، وقد أدى هذا الصراع العنصري الضاري الى انهيار الخلافة وقيام فترة من الحروب الأهلية عرفت بعصر الفتنة التتفتت الأندلس بعدها الى دويلات ومالک عرفت تاريخيا بدويلات الطوائف الثانية التي قامت على أسس عنصرية وعرقية وتحاربت فيما بينها واستعانت على بعضها البعض بالملوک الاسبان ما سجل البداية الفعلية والحقيقية لضياع الاسلام في الأندلس ، وکانت طليطلة هيالضحية الأولى بين المماليک الاسلامية لخلافات المسلمين وکان ضياعها النتيجة الحتمية العوامل الضعف هذه ، فقد سقطت في يد الفرنسي السادس ملک قشتالة وليون سنة ۷۸ هجرية ( ۱۰۸۰ م ) . رغم دخول المرابطين الى الاندلس وربطهم کل من المغرب والأندلس بوحدة سياسية وحضارية وتمکنهم من التصدى لاسبانيا المسيحية والانتصار على الاسبان في سلسلة من المعارک الناجحة أهمها الزلاقة الأولى وأقليش ( ۵۰۱ هجرية ) والزلاقة الثانية وافراغه ( ۱۲۸ هجرية ) ( ۷ ) الا أن الثورات سرعان ما اشتعلت ضد حکمهم وکان معظم من قاد هذه الثورات في الاندلس ضد المرابطين البربر يرجعون الى أصول مولدة أمثال ابن قسي وابن المنذر وکان ظهور واستقلال ابن مردنيش وابن هشک عن المرابطين يحمل بعض الايحاءات والاشارات العنصرية . وفي اللحظات الأخيرة للاسلام في الأندلس في عصر بني الأحمر وجدنا الصراع بين أفراد الأسرة الحاکمة واستعانة الاخ على أخيه والابن على أبيه بلوک الاسبان ، يقضي علىالبقية الباقية من دولة الاسلام . وسنرکز في هذا البحث على أحد هذه العوامل التي اسفرت في النهاية عن سقوط الأندلس ، وهو عامل الصراعات العرقية بين العناصر والأجناس المختلفة المکونة للمجتمع الاندلسي ، فهذا الصراع العرقي العنصري المرير الذي أفرز دائما حالة من عدم الاستقرار الاجتماعي أعقبتها حالة من التخبط وعدم الاستقرار السياسي ، کان في اعتقادي أخطر العوامل التي أسفرت في النهاية عن سقوط الأندلس وقد لاحظنا من خلال دراستنا للتاريخ والحضارة الأندلسية أن کورة جيان کانت مرکزا ومستقرا لکل الأجناس والاعراق التي عرفتها الأندلس ، فقد استوطنها العرب وکذلک البربر کما عاشت بها جماهير غفيرة من المولدين والمستعربين أو نصاري الذمة . وقد برز جنوح هذه العصبيات والأجناس المختلفة الى الثورة والتمرد والاستقلال عن الحکومة المرکزية في قرطبة بوضوح في عصر الامارة واستقل زعيم کل طائنة ببقعة من أرض جيان وأصبحت کورة جيان تجتمع على أرضها بين دويلات صغيرة متبانية الاجناس متعادية في بعض الأحيان ومتحالفة مع بعضها مع البعض ضد الامارة في قرطبة في أحيان أخرى ،فکأن جيان کانت رمزا للاندلس وصورة مصغرة من الوطن الام فما کان يجري على أرضها في عصر الامارة من ثورات عنصرية وحروب أهلية طاحنة لم يکن سوى مثال واهد هي لما کان بدور في باقي الأندلس ، لذلک فقد اخترنا دراسة الصراعات العنصرية زمن الامارة في هذه الکورة کورة جبان باعتبارها مثالا صارخا وناطقا لما کانت تحتويه أو تحتضنه حضارة الأندلس بکل عظمتها وشموخها ورتبها من عوامل ضعف تکالبت عليها في النهاية وتسببت في ضباع الاسلام هناک .