ظاهرة خطف العمائم في مصر عصر المماليك الجراكسة

نوع المستند : أبحاث علمیة

المؤلف

أستاذ التاريخ الإسلامي المساعد كلية الآداب_ جامعة طنطا

المستخلص

تناقش هذه الدراسة حالة استثنائية فى التاريخ المملوكى ، وهى ظاهرة خطف العمائم ، تلك الظاهرة التى ظهرت فى متون النصوص التاريخية وتماست مع ممارسات سياسية واقتصادية واجتماعية ، عبرت عن حالة من حالات التمرد الاجتماعى ، أو كما وصفها ماير بأنها تلك العادة " التى كان يمارسها عصاة المماليك من خطف العمائم من فوق رؤوس المدنيين ، وكان يحدث ذلك بصفة خاصة فى الأيام التى كانت تسود فيها الاضطرابات " ([1]) ، وفى الواقع فقد تجلت هذه الظاهرة فى العديد من المناسبات ،  إن الظاهرة موضوع الدراسة يمكن أن تبدو كحالة من حالات التاريخ الشعبى المعارض ([2]) ، أو كمظهر من مظاهر التمرد وكسر الهيبة نظراً للأهمية الكبيرة للعمامة ورمزيتها البارزة فى العصر المملوكى .
إن الباحث يجد ضرورة حتمية لتفكيك الظاهرة من الناحيتين النفسية والاجتماعية ، فالوقائع التاريخية حسب تعبير أحد الباحثين في جوهرها تعكس سلوكيات فردية وجماعية ، وعليه فهي نتاج بنية نفسية تعكس في جوانب كثيرة منها المكبوتات الداخلية للمجتمع، والتي تحتفظ بها الذاكرة الجماعية، والحقيقة فإن اعتماد المؤرخين المعاصرين على المقاربة السيكولوجية في الكتابة التاريخية الحديثة ساعدهم كثيراً في توجيه تفكيرهم نحو مجالات مغمورة وطرحوا أسئلة جديدة لم يكن من الممكن طرحها لولا الآفاق الجديدة التي فتحها توظيف مناهج التحليل النفسي في البحث التاريخي([3]) .
ومهما يكن من أمر فإن الباحث فى هذه الإشكالية لا يمكنه دراستها بمعزل عن النوازع النفسية والاجتماعية ، فالظاهرة موضوع الدراسة لن تدور إلا من خلال دوائر مغلقة محاورها الرئيسية هى التمرد ، والعنف ، والعدوان ، وتبخيس الآخر ، هذه الأفكار بطبيعة الحال تولدت من الظرف العام لفترة حكم المماليك الجراكسة بما رافقه من ظروف اقتصادية وسياسية واجتماعية ونفسية ([4]) .
 
 ([1])الملابس المملوكية، ترجمة صالح الشيتي، الهيئة العامة المصرية للكتاب، القاهرة، 1972م ، ص 92 .
[2]))  صورت السير الشعبية المعاصرة للعصر المملوكى ظاهرة خطف العمائم بشكل بالغ الوضوح والدلالة ، ففى سيرة الظاهر بيبرس نجد أن البطل الشعبى الأسطورى عثمان بن الحبلة يقوم بخطف العمائم كشكل من أشكال التمرد ضد السلطة وضد الواقع الاجتماعى ، هذا البطل الشعبى الذى كان مرهوب الجانب من السلطة والشعب معا ، وحسب السيرة الشعبية فلم يتمكن أحد من مقاومته أو الوقوف في طريقه ، ، وقد حذرت السيرة الظاهر بيبرس من أن يصطدم مع عثمان بن الحبلة وإلا انخرقت هيبته في مصر كلها وهيبة السلطنة معه . وللوقوف على إشكالية العلاقة بين البطل الشعبى عثمان بن الحبلة والظاهر بيبرس كما عكسته السيرة الشعبية انظر : أحمد عبد السلام ناصف : صورة الثائر والمتمرد فى كتب التراث الشعبى : عثمان بن الحبلة وسيرة الظاهر بيبرس أنموذجاً ، بحث منشور فى مجلة كلية الآداب جامعة المنوفية ، السنة 39 ، العدد 113 ، الجزء الثالث ـ ابريل 2018 ؛  وكذلك راجع : إبراهيم حنفي : البنية الأسطورية في سيرة الظاهر بيبرس، الهيئة العامة المصرية للكتاب، القاهرة، 2012 ، ص140 ؛ محمد النجار : حكايات الشطار والعيارين في التراث العربي، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1941م، ص 304 ، وحسب إحدى النصائح الموجهة لبيبرس فى السيرة الشعبية والمنسوبة  إلى شخصية تدعى بالأغا شاهين وزير الملك الصالح فهو يحذر بيبرس من أولاد مصر وعلى رأسهم عثمان بن الحبلة ، بقوله " إياك ثم إياك أن تستخدم رجلا يقال له عثمان بن الحبله ، لأنه رجلٌ لا يصطلى له بنار في أرض مصر ، وقد أذل أهلها وقد بلاهم بالقهر ، وما دأبه إلا خطف العمائم ، ولا يبالي من الأكابر ولا من الأصاغر وهو كأنه عفريت من عفاريت السيد سليمان . انظر : أحمد ناصف : صورة الثائر والمتمرد ، ص 2068 ؛  إبراهيم حنفي : البنية الأسطورية ، ص140 ؛ محمد النجار : حكايات الشطار والعيارين ، ص 304 ، وتنقل السيرة منظر بيت عثمان بن الحبلة ففيه قاعة بها كثير من العمائم ومقل وجبب ملونات وشيلان وبرانص وطقوم وغير ذلك، وحسب السيرة الشعبية فإن بيبرس قد تعجب من هذا المنزل قائلاً  لأم عثمان بن الحبلة التى حاولت أن تقرب بين ابنها وبين بيبرس إني أرى بيتك من تحت كبيوت السادات والقادات، ومن فوق كبيوت دلالين الأسواق، فقالت له هذه الملابس والعمائم التي يخطفها ابني عثمان من الجميع من حكام وأمراء ولا يخاف منه، وهذه هي عادته ولا يخاف أحداً . انظر : سيرة الظاهر بيبرس، مج1، ج4، ص314، 315؛  أحمد ناصف : صورة الثائر ، ص 2070؛ إبراهيم حنفي: البنية الأسطورية، ص143، وهو ما يعكس قضية خطف العمائم ومدى حضورها الطاغى فى السير الشعبية العاكسة لروح العصر المملوكى .  
([3]) أشرف صالح : التفسير السيكولوجي للتاريخ، بحث منشور في دورية كان التاريخية ، السنة الرابعة، العدد الثالث عشر، سبتمبر 2011 ، ص 7 .
 ([4])وبتحليل أحد الأساتذة فإن العدوانية تنخر وجود الإنسان المقهور عموماً ... والعنف الرمزى أحد أدواته ...، والعنف الرمزى ليس إلا تعبيراً انفجارياً عن ميول التمرد فى الجماعة ، والتمرد على القوانين والاعتداء عليها رمزياً اعتداء على السلطة التى وضعتها ، وتعريض الذات لأخطار الملاحقة والعقاب ، وبعض الأساليب الرمزية لها وظيفة تفريجية واضحة  ، والعنف أيضاً حسب ذات التحليل يبقى الوسيلة الأخيرة فى يد الإنسان للإفلات من مأزقه ومن خطر الاندثار الداخلى الذى يتضمنه هذا المأزق ، والعنف هو السلاح الأخير لإعادة شىء من الاعتبار المفقود إلى الذات ، وهو لغة التخاطب الأخيرة الممكنة مع الواقع ومع الآخرين لإقناع الآخر بكيانه وقيمته ، حيث تمارس وتمارس عمليات العدوان التى تحقق لها البطش والغلبة من ناحية ، والعظمة والتعالى من ناحية ثانية، ومثل هذه العناصر فى حالة تعبئة نفسية دائمة استعداداً للصراع ، وتكون الوسيلة الأكثر شيوعاً هى توجيه العدوانية إلى جماعات خارجية من خلال التعصب العرقى أو الطائفى ، وتنهار علاقة التعاطف والمشاركة فى المواطنية وتفتح الطريق عريضة أمام صب كل العنف على الجماعة الغريبة دون قيد أو ضابط ، تحدث استباحة لها ولكيان أفرادها ، وينفجر العنف مكتسحاً كل شىء ، ويفرغ التوتر الداخلى الذى تحول إلى حقد خارجى ، ووفقاً لذات التحليل الهام أن السلوك الجانح فى مجتمع ما مؤشر يتجسد فى تصرف بعض الأشخاص الخارجين عن القانون للدلالة على ما يعتمل باطنياً فى بنية هذا المجتمع من اضطراب ، وما يتراكم فيها من عدوانية كامنة قابلة للانفجار فى ظروف معينة ، وهى دلالة على مقدار العدوانية الكامنة فى شبكة العلاقات الاجتماعية . انظر : مصطفى حجازى : التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء- بيروت، الطبعة التاسعة، 2005م ، بتصرف ، ص 165 ، 167 ، 173 ، 176،  179 ، 181 ،  182 .

الكلمات الرئيسية

الموضوعات الرئيسية